إذا حضر الأجل فلا رجعة للدنيا
قال تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) [المؤمنون/99، 100]
لا يَزَالُ الكَافِرُ يَجْتَرحُ السَّيِّئَاتِ ، ولا يُبَالي بِمَا يَأتِي وَما يَذَرُ مِنْ الآثامِ والأَوْزَارِ ، حَتَّى إذا جَاءَهُ المَوتُ ، وعَايَنَ ما هو مُقْدِمُ عَلَيْهِ مِنْ عَذَابِ اللهِ نَدِمَ على مَا فَاتَ ، وأَسِفَ على مَا فَرَّطَ في جَنْبِ اللهِ ، وقَالَ : رَبِّ ارجِعُونِ لأَعْمَلَ صَالِحاً فِيمَا قَصَّرْتُ مِنْ عِبَادَتِكَ ، وحُقُوقِ عِبَادِكَ .إِنًَّ الكَافِرَ يَسْأَلُ رَبَّهُ الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا لِيَعْمَل صَالِحاً ، وَيَتَدَارَكَ مَا فَرَطَ مِنْهُ ، وَلِيُصْلِحَ فِيمَا تَرَكَ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍِ . وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ رَادِعاً وَزَاجِراً : إِنَّهُ لاَ يُجِيبُهُ إِلَى طَلَبِهِ هَذَا ( كَلاَّ ) . فَهِيَ كَلِمَةٌ مَقُولَةٌ لاَ مَعْنَى لَهَا ، يَقُولُهَا كُلُّ ظَالِمٍ وَقْتَ الضِّيقِ والشِّدَّةِ ، وَلَوْ رُدَّ لَعَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ، فَقَدْ كَانَ فِي الحَيَاةِ ، وجَاءَتْهُ الآيَاتُ فَلَمْ يَتَّعِظُ بِهَا ، وَلَمْ يَعْمَلُ صَالِحاً ، وَيَقُومُ وَرَاءَهم حَاجِزٌ (بَرْزَخٌ ) ، يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّجُوعِ إِلى الدُّنْيَا ، وَيَبْقَوْنَ كَذَلِكَ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وَيُنْشَرُونَ .
«حَتَّى » غاية لمحذوف دل عليه السياق ، والتقدير ، ولكن كثيرا من الناس ، لا يأخذون حذرهم من الشيطان ، ولا يستعيذون باللّه منه ، فيفسد عليهم دينهم ، وينقض ظهورهم بالذنوب والآثام ، ثم يظلون هكذا فى غفلتهم « حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ » وانكشف عن عينيه الغطاء ، ورأى ما قدم من منكرات « قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ » إلى دنياى ، « لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ » ولأصلح من أمرى ما فسد ، وأقيم من دينى ما اعوجّ .. ولكن هيهات .. لقد فات وقت الزرع ، وهذا أوان الحصاد .. « كَلَّا .. إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها » أي إنها مجرد كلام يقال ، لا وزن له ، ولا ثمرة منه .. « وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ » أي أن هناك سدا قائما ، فاصلا بين الأموات ، وعالم الأحياء .. فلا سبيل لمن أدركه الموت أن يخترق هذا البرزخ ، وينفذ إلى عالم الأحياء مرة أخرى ، وذلك « إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ».. حيث يزول البرزخ ، وينتقل الناس جميعا إلى العالم الآخر ، ويصبحون جميعا فى عالم الحق ..
إنه مشهد الاحتضار ، وإعلان التوبة عند مواجهة الموت ، وطلب الرجعة إلى الحياة ، لتدارك ما فات ، والإصلاح فيما ترك وراءه من أهل ومال .. وكأنما المشهد معروض اللحظة للأنظار ، مشهود كالعيان!
فإذا الرد على هذا الرجاء المتأخر لا يوجه إلى صاحب الرجاء ، إنما يعلن على رؤوس الأشهاد :«كَلَّا. إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها ...» كلمة لا معنى لها ، ولا مدلول وراءها ، ولا تنبغي العناية بها أو بقائلها. إنها كلمة الموقف الرهيب ، لا كلمة الإخلاص المنيب. كلمة تقال في لحظة الضيق ، ليس لها في القلب من رصيد!
وبها ينتهي مشهد الاحتضار. وإذا الحواجز قائمة بين قائل هذه الكلمة والدنيا جميعا. فلقد قضي الأمر ، وانقطعت الصلات ، وأغلقت الأبواب ، وأسدلت الأستار :«وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» ..فلا هم من أهل الدنيا ، ولا هم من أهل الآخرة. إنما هم في ذلك البرزخ بين بين ، إلى يوم يبعثون.
قال الإمام الشافعي رحمه الله :
دَعِ الأَيَّامَ تَفْعَل مَا تَشَاءُ وطب نفساً إذا حكمَ القضاءُ
وَلا تَجْزَعْ لِحَادِثة الليالي فما لحوادثِ الدنيا بقاءُ
وكنْ رجلاً على الأهوالِ جلداً وشيمتكَ السماحة ُ والوفاءُ
وإنْ كثرتْ عيوبكَ في البرايا وسَركَ أَنْ يَكُونَ لَها غِطَاءُ
تَسَتَّرْ بِالسَّخَاء فَكُلُّ عَيْب يغطيه كما قيلَ السَّخاءُ
ولا ترجُ السماحة ََ من بخيلٍ فَما فِي النَّارِ لِلظْمآنِ مَاءُ
وَرِزْقُكَ لَيْسَ يُنْقِصُهُ التَأَنِّي وليسَ يزيدُ في الرزقِ العناءُ
وَلا حُزْنٌ يَدُومُ وَلا سُرورٌ ولا بؤسٌ عليكَ ولا رخاءُ
وَمَنْ نَزَلَتْ بِسَاحَتِهِ الْمَنَايَا فلا أرضٌ تقيهِ ولا سماءُ
وأرضُ الله واسعة ً ولكن إذا نزلَ القضا ضاقَ الفضاءُ
دَعِ الأَيَّامَ تَغْدِرُ كُلَّ حِينٍ فما يغني عن الموت الدواءُ
وقال المتنبي :
أرَقٌ عَلى أرَقٍ وَمِثْلي يَأرَقُ وَجَوًى يَزيدُ وَعَبْرَةٌ تَتَرَقْرَقُ
جُهْدُ الصّبابَةِ أنْ تكونَ كما أُرَى عَينٌ مُسَهَّدَةٌ وقَلْبٌ يَخْفِقُ
مَا لاحَ بَرْقٌ أوْ تَرَنّمَ طائِرٌ إلاّ انْثَنَيْتُ وَلي فُؤادٌ شَيّقُ
جَرّبْتُ مِنْ نَارِ الهَوَى ما تَنطَفي نَارُ الغَضَا وَتَكِلُّ عَمّا يُحْرِقُ
وَعَذَلْتُ أهْلَ العِشْقِ حتى ذُقْتُهُ فعجبتُ كيفَ يَموتُ مَن لا يَعشَقُ
وَعَذَرْتُهُمْ وعَرَفْتُ ذَنْبي أنّني عَيّرْتُهُمْ فَلَقيتُ منهُمْ ما لَقُوا
أبَني أبِينَا نَحْنُ أهْلُ مَنَازِلٍ أبَداً غُرابُ البَينِ فيها يَنْعَقُ
نَبْكي على الدّنْيا وَمَا مِنْ مَعْشَرٍ جَمَعَتْهُمُ الدّنْيا فَلَمْ يَتَفَرّقُوا
أينَ الأكاسِرَةُ الجَبابِرَةُ الأُلى كَنَزُوا الكُنُوزَ فَما بَقينَ وَلا بَقوا
من كلّ مَن ضاقَ الفَضاءُ بجيْشِهِ حتى ثَوَى فَحَواهُ لَحدٌ ضَيّقُ
خُرْسٌ إذا نُودوا كأنْ لم يَعْلَمُوا أنّ الكَلامَ لَهُمْ حَلالٌ مُطلَقُ
فَالمَوْتُ آتٍ وَالنُّفُوسُ نَفائِسٌ وَالمُسْتَعِزُّ بِمَا لَدَيْهِ الأحْمَقُ
وَالمَرْءُ يأمُلُ وَالحَيَاةُ شَهِيّةٌ وَالشّيْبُ أوْقَرُ وَالشّبيبَةُ أنْزَقُ
وَلَقَدْ بَكَيْتُ على الشَّبابِ وَلمّتي مُسْوَدّةٌ وَلِمَاءِ وَجْهي رَوْنَقُ
حَذَراً عَلَيْهِ قَبلَ يَوْمِ فِراقِهِ حتى لَكِدْتُ بمَاءِ جَفني أشرَقُ
أمّا بَنُو أوْسِ بنِ مَعْنِ بنِ الرّضَى فأعزُّ مَنْ تُحْدَى إليهِ الأيْنُقُ
كَبّرْتُ حَوْلَ دِيارِهِمْ لمّا بَدَتْ منها الشُّموسُ وَليسَ فيها المَشرِقُ
وعَجِبتُ من أرْضٍ سَحابُ أكفّهمْ من فَوْقِها وَصُخورِها لا تُورِقُ
وَتَفُوحُ من طِيبِ الثّنَاءِ رَوَائِحٌ لَهُمُ بكُلّ مكانَةٍ تُسْتَنشَقُ
مِسْكِيّةُ النّفَحاتِ إلاّ أنّهَا وَحْشِيّةٌ بِسِواهُمُ لا تَعْبَقُ
أمُريدَ مِثْلِ مُحَمّدٍ في عَصْرِنَا لا تَبْلُنَا بِطِلابِ ما لا يُلْحَقُ
لم يَخْلُقِ الرّحْم?نُ مثلَ مُحَمّدٍ أحَداً وَظَنّي أنّهُ لا يَخْلُقُ
يا ذا الذي يَهَبُ الكَثيرَ وَعِنْدَهُ أنّي عَلَيْهِ بأخْذِهِ أتَصَدّقُ
أمْطِرْ عَليّ سَحَابَ جُودِكَ ثَرّةً وَانظُرْ إليّ برَحْمَةٍ لا أغْرَقُ
كَذَبَ ابنُ فاعِلَةٍ يَقُولُ بجَهْلِهِ ماتَ الكِرامُ وَأنْتَ حَيٌّ تُرْزَقُ
ــــــــــــــــ