منهج السلف في السلوك
امتاز منهج السلف -رضوان الله عليهم- بالاعتدال والالتزام بالشرع في جميع أحوالهم؛ والسير على الهدي المستقيم دون التفات لما سواه.
وقد ظهر هذا المنهج المبارك في اعتقادهم وسلوكهم ومعاملاتهم؛ بدون إفراط أو تفريط.
وهذا المنهج تطبيق لما أمرت به الشريعة من السير على ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه الراشدون؛ حيث روى الإمام أحمد وغيره عن الْعِرْبَاض بْن سَارِيَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: ) وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ: "قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ، فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ (.
وإن من مزايا منهج السلف في هذا الباب اعتدالهم وتوازنهم في متطلبات الحياة الضرورية والتعاطي معها؛ والرغبة في الدار الآخرة والسعي لها؛ بخلاف ما حصل عند الفرق الضالة التي جانبت الصواب في التعاطي مع الأمرين.
فيجد الناظر غلوا في الميل عن الدنيا وإظهار التقشف المقيت الذي يضر بالبدن كما هو ظاهر عند رهبان النصارى وأمثالهم من غلاة المتصوفة.
أو الميل عن الدار الآخرة والولوغ في ملذات الحياة كما عند الملاحدة الماديين وغيرهم.
فالسلف - رضوان الله عليهم - توسطوا واعتدلوا في إعطاء كل ذي حق حقه؛ فتعاملوا مع الحياة باتزان دون إفراط فيها؛ وتعاملوا مع الآخرة كذلك باعتدال دون تفريط أيضا.
وهذا التوازن هو ما بينه الصحابي الجليل سلمان الفارسي لأبي الدرداء -رضي الله عنهما- كما رواه الترمذي في سننه عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ) آخَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ سَلْمَانَ وَبَيْنَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً فَقَالَ: مَا شَأْنُكِ مُتَبَذِّلَةً؟ قَالَتْ: إِنَّ أَخَاكَ أَبَا الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ قَرَّبَ إِلَيْهِ طَعَامًا فَقَالَ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِيَقُومَ فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: نَمْ، فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ لَهُ: نَمْ، فَنَامَ فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ قَالَ لَهُ سَلْمَانُ: قُمِ الْآنَ فَقَامَا فَصَلَّيَا، فَقَالَ: إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَأَتَيَا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَا ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ: صَدَقَ سَلْمَانُ (.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
وَكَثِيرٌ مِنَ الْعِبَادِ يَرَى جِنْسَ الْمَشَقَّةِ وَالْأَلَمِ وَالتَّعَبِ مَطْلُوبًا مُقَرِّبًا إلَى اللَّهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ نُفْرَةِ النَّفْسِ عَنِ اللَّذَّاتِ وَالرُّكُونِ إلَى الدُّنْيَا وَانْقِطَاعِ الْقَلْبِ عَنْ عَلَاقَةِ الْجَسَدِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ زُهْدِ الصَّابِئَةِ وَالْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ. وَلِهَذَا تَجِدُ هَؤُلَاءِ مَعَ مَنْ شَابَهَهُمْ مِنَ الرُّهْبَانِ يُعَالِجُونَ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ الشَّدِيدَةَ الْمُتْعِبَةَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ والزَّهَادَاتِ مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهَا وَلَا ثَمَرَةَ لَهَا وَلَا مَنْفَعَةَ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا لَا يُقَاوِمُ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ الَّذِي يَجِدُونَهُ. وَنَظِيرُ هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ مَدْحُ بَعْضِ الْجُهَّالِ بِأَنْ يَقُولَ: فُلَانٌ مَا نَكَحَ وَلَا ذَبَحَ. وَهَذَا مَدْحُ الرُّهْبَانِ الَّذِينَ لَا يَنْكِحُونَ وَلَا يَذْبَحُونَ وَأَمَّا الْحُنَفَاءُ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: ) لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ( وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ هِيَ مِنَ الدِّينِ الْفَاسِدِ وَهُوَ مَذْمُومٌ كَمَا أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ إلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَذْمُومٌ.
وَالنَّاسُ أَقْسَامٌ:
أَصْحَابُ "دُنْيَا مَحْضَةٍ" وَهُمْ الْمُعْرِضُونَ عَنِ الْآخِرَةِ.
وَأَصْحَابُ "دِينٍ فَاسِدٍ" وَهُمُ الْكُفَّارُ وَالْمُبْتَدِعَةُ الَّذِينَ يَتَدَيَّنُونَ بِمَا لَمْ يُشَرِّعْهُ اللَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ والزَّهَادَاتِ.
وَ"الْقِسْمُ الثَّالِثُ" وَهُمْ أَهْلُ الدِّينِ الصَّحِيحِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ الْمُسْتَمْسِكُونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ.