ابن رجب في كتابه «فضل علم السلف على الخلف»
ما فتئ العلماء في مصنفاتهم عبر القرون الإسلامية مثنين على ما كان عليه الرعيل الأول من الصحابة والتابعين ومن بعدهم؛ وما كانوا عليه من الهدي في العلم والعمل.
ومن ذلك ما قاله الحافظ ابن رجب -رحمه الله- في كتابه النافع فضل علم السلف على الخلف: وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم، فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله. ومنهم من يقول: هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين، وهذا يلزم منه ما قبله لأن هؤلاء الفقهاء المشهورين المتبوعين أكثر قولا ممن كان قبلهم، فإذا كان من بعدهم أعلم منهم لاتساع قوله كان أعلم ممن كان أقل منهم قولا بطريق الأولى، كالثوري، والأوزاعي، والليث، وابن المبارك، وطبقتهم، وممن قبلهم من التابعين والصحابة أيضًا.
فإن هؤلاء كلهم أقل كلامًا ممن جاء بعدهم وهذا تنقص عظيم بالسلف الصالح وإساءة ظن بهم ونسبته لهم إلى الجهل وقصور العلم ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولقد صدق ابن مسعود في قوله في الصحابة: «إنهم أبر الأمة قلوبًا، وأعمقها علومًا، وأقلها تكلفًا» وروي نحوه عن ابن عمر أيضًا، وفي هذا إشارة إلى أن من بعدهم أقل علومًا وأكثر تكلفًا.
وقال ابن مسعود أيضًا: «إنكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه كثير خطباؤه فمن كثر علمه وقل قوله فهو الممدوح، ومن كان بالعكس فهو مذموم». وقد شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- لأهل اليمن بالإيمان والفقه، وأهل اليمن أقل الناس كلامًا وتوسعًا في العلوم، لكن علمهم علم نافع في قلوبهم ويعبرون بألسنتهم عن القدر المحتاج إليه من ذلك، وهذا هو الفقه والعلم النافع، فأفضل العلوم في تفسير القرآن ومعاني الحديث والكلام في الحلال والحرام ما كان مأثورًا عن الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى أن ينتهي إلى أئمة الإسلام المشهورين المقتدى بهم الذين سميناهم فيما سبق.